ظهرت إلى النور عشرات الكتب التي صادف ان مؤلفيها ضباط في الجيش الجزائري، أولئك الذين فروا إلى الخارج و أصدروا ما أسموه " شهادة ضابط شريف" على شكل كتب كانت كلها تصب في نفس الاتجاه. أي فضح النظام القائم و اتهامه بأنه عسكري و دموي، ذهب إلى حد اغتيال شعبه لتكريس الشعبوية الشمولية الفارغة، و الازدواجية في الخطاب السياسي التي صنعت حفنة من الأغنياء على رؤوس الأغلبية الساحقة من المحرومين من لقمة الخبز في دولة النفط و الغاز الطبيعي.
الضباط المتمردون!
ما من شك أن الاطلاع على كتاب " الحرب القذرة " للملازم الجزائرية الحبيب سوايدية لا يمكنه أن يتصور حجم الصدمة التي تنتابه. ربما لأن الكتاب كله ـ كما يقول عنه الناشر ـ عبارة عن صورة صغيرة من واقع كبير و بشع. و لأن الملازم الجزائري الشاب من جيل آخر غير الجيل الأول من الضباط الذين تحولوا إلى جنرالات. لكنهم ـ كما يقول الحبيب سوايدية ـ جنرالات كانوا في الواقع جزء لا يتجزأ من الجيش الفرنسي إبان الاحتلال، و أنهم " غيروا السترة" فقط بعد الاستقلال، إذ سرعان ما تسللوا إلى الجيش الجزائري بعد إقامة الجمهورية المستقلة و استطاعواأن يحتلوا المواقع المهمة داخل الجيش و كانوا أكثر وفاء و ولاء لفرنسا طوال تلك السنوات مقابل ما كانت تمنحه فرنسا لهم من أموال و من حوافز.." .. إنهم الجنرالات التي يسميهم العقيد محمد سمراوي بالاسم، قائلا إنه شاهد عيان على مرحلة بأكملها و أنه يعرف تفاصيل الحرب المرتبكة ضد الجزائريين و" بكتابته سنوات الدم" يعرف انه وضع حياته على كف عفريت، لكن " يجب قول الحقيقة و يجب أن يعرف الشعب من يحكمه خلف الكواليس و من يأمر باغتياله كل يوم.. إنهم هؤلاء المجرمين كما ذكر في ذات الكتاب التي أحدث صدمة رهيبة في الجزائر عندما صدر أول مرة. صدمة مفادها: حاميها حراميها..!
سنوات الدم الجزائري سيرة حرب مدمرة :
لم يكن محمد سمراوي شخصا عاديا و لا ملازما بسيطا، بل كان عقيدا في الجيش، وأين تحديدا: في الاستخبارات الجزائرية! و لأنه كان ضابطا في تلك الهيئة التي لا يعرف أسرارها كل الناس، فقط عمد محمد سمراوي على أن يخرج إلى الجزائريين كتابا فضح فيه الأسماء المخفية تحت الألقاب الحركية..! و لأن الكتاب يعد من أخطر الكتب على الإطلاق التي على أساسه حكم الجنرالات في الجزائر على العقيد سمراوي بالإعدام غيابيا، و لأن محمد سمرواي دخل قبل فترة في صراع مع القضاء الاسباني الذي منعه من السفر أمام مطالبة الجنرالات بتسليمه للجزائر، و لأن الكتاب صار مرجعية للحديث عن سنوات الدم في الجزائر، نقدم لقراء "آفاق" حصريا هذه التفاصيل من الكتاب/ الصدمة :
في أول صفحة يقابلنا الإهداء بسيطا و عميقا في ذات الوقت، على الشكل التالي: "إلى أمي التي لم أرها منذ شهر سبتمبر 1993، والتي أخشى ألا أراها أبدا بسبب الجنرالات المجرمين الذين يحكمون الجزائر اليوم! إلى روح الجنرال فضيل سعيدي والعقيد عاشور زهراوي، وكل من الرائدين فاروق بومرداس، وجابر بن يمينة ضحايا النذالة والغدر، وافتراء الجنرالات المفسدين والمفترسين! إلى عبد الحي بليردوخ الصحفي الشجاع صاحب القلم الجريء الذي ضحى بنفسه لفضح ومحاربة محتالي الجمهورية و أشرارها. إلى السيد محمود خليلي المناضل الصلب المقدام المدافع عن حقوق الإنسان الذي طالما تعرض لضغط وتعسف أولئك الذين اغتصبوا السلطة في الجزائر.. إلى كل المدنيين والعسكريين الجزائريين والأجانب الذين ذهبوا ضحية مؤامرات الجنرالات ضد مبادئ ورموز ثورة أول نوفمبر 1954." ...
و بعد ذلك يتناول العقيد العلاقة المشبوهة بين الاستخبارات الفرنسية و نظيرتها الجزائرية في خلط المفاهيم و عمليات قال عنها " قذرة" توحي " بنذالة" كبيرة. إلى أن يتحول الحديث إلى أسباب اختياره الفرار من الجيش و اللجوء إلى الخارج لأجل فضح تلك الممارسات قائلا: " ذات يوم من شهر سبتمبر سنة 1995، أفتح باب غرفة تقع في الطابق الأول من فندق "رينال" وهو نزل متواضع يقع في وسط مدينة بون، لألتقي من جديد برئيسي السابق الجنرال إسماعيل العماري المعروف بـ "إسماعين" الذي قدم متخفيا، وهو الرقم الثاني في جهاز المخابرات الجزائرية. إنه قصير القامة ذو وجه بزوايا حادة، وعينان سوداوان يعلوهما صلع متقدم، بدا لي مجرد رؤيته أنه مصمم على اتخاذ قرار خطير، وقد كان بجانبه زميلاي الملحقان العسكريان السابقان بسفارة الجزائر بألمانيا، قدما كذلك خصيصا من الجزائر، وهما العقيدان رشيد لعلالي، وعلي بن جده المكنى بـ "إسماعين الصغير" وكلاهما ضابطان في الأمن معروفان بإخلاصهما الكبير وولائهما للجنرال إسماعين...
من الوهلة الأولى وبدون مقدمة فاتحني هذا الأخير بموضوع ذلك الاجتماع "السري" المثير للاستغراب، طالبا مني تدبير عملية اغتيال معارضين إسلاميين جزائريين لاجئين في ألمانيا، هما السيدان: رابح كبير وعبد القادر صحراوي... وهما شخصيتان عموميتان ووجهان معروفان، صحيح أنهما معارضان للنظام الحاكم في الجزائر، ولكنهما لا يمثلان أي خطر يمكن أن يوضع في خانة ما يوصف "بالإرهاب"..
وأمام إبداء اندهاشي من جدوى القيام بتلك العملية، أضاف إسماعين قوله :(ربما كتبرير لإقناعي) "يجب تصفية هؤلاء الأوغاد الذين يغرقون الجزائر في الدم والنار ويعوقون حصولنا على المساندة الدولية... إن شبح الأصولية، وقيام جمهورية إسلامية في الجزائر من شأنه أن يزعزع الاستقرار في البلدان المغاربة قاطبة كما من شأنه –أيضا- أن يمثل قاعدة صلبة ومنطلقا للهجوم على الغرب... ويبدو أن ذلك لم يقنع شركاءنا الأوروبيين ولذلك يجب إحداث هزة قوية توقظ ضمائرهم، مثلما كان الحال مع الفرنسيين. قلت: ماذا لو حدث طارئ؟
قال: اطمئن لن يلحقك أي أذى لو يطردونك من هنا سأعينك في منصب آخر.... قلت: الدولة هنا دولة قانون وليس عندكم أي حظ للنجاح وزيادة على ذلك لا يمكنكم الاعتماد "مثلما هو الحال في فرنسا" على أصدقائكم في "ج.م.ف/DST"... أو وزارة الداخلية ليهبوا لمساعدتكم عند الحاجة، إن هنا في ألمانيا لا يوجد "باسكوا Pasqua" "وزير الداخلية" ولا (بوني Bonnet) "جهاز مكافحة التجسس" ولا "باندرو Pandraud" أو "مارشياني Marchiani". قطعا إن رفضي هذا أجهض العملية ولكنه في الوقت ذاته مثّل القطيعة النهائية و"الطلاق البائن" مع أصحاب القرار في الجزائر... وهو ما دفعني لاتخاذ قرار الانسحاب من الجيش بعد ذلك ببضعة أشهر."
البحث عن الحقيقة!
يقول دوبلزاك في كتابه " الأوهام الضائعة " المقولة الشهيرة التي اختارها العقيد محمد سمراوي مقدمة لكتابه سنوات الدم : ""يوجد نوعان من التاريخ: تاريخ رسمي، كاذب وهو التاريخ الذي لُقنا إياه في المدارس، وتاريخ سري، يتعين علينا البحث عنه وفيه تكمن الأسباب الحقيقية للأحداث، وهو تاريخ مخجل حقا".. و لكي يقنعنا أنه يكتب ليقول الحقيقة كتب معرفا عن نفسه بشكل كامل:
"أنا ضابط سام في جهاز المخابرات بالجيش الوطني الشعبي الجزائري، شاركت في الانقلاب الذي أطاح بالرئيس الشاذلي بن جديد في شهر يناير 1992، كان لي دور في الحرب المعلنة ضد الشبكات المسلحة للأصوليين الإسلاميين في بداية التسعينيات، لأنني كنت أرى حينذاك أنه من واجبي المساهمة في عملية إنقاذ الوطن من الخطر الذي كان يتهدده...
غير أن تطورات الأحداث بعد ذلك أظهرت لي بكل وضوح أني أقوم بدور المتواطئ مع جلادّي الشعب الجزائري، كما أظهرت لي أيضا أنني لم أكن في حقيقة الأمر أشارك في الدفاع عن مصالح الشعب الجزائري كما كنت أظن، وإنما كنت أدافع عن مصالح عصابة من الأشرار والمفسدين في الأرض، ليس لأعضائها همٌ سوى الحلم بالاستحواذ وبكل الوسائل "هدم، نهب، كذب" على مقدرات البلاد، وفرض إرادتهم التي لا تعدو كونها شكلا منحرفا وملتويا من أشكال الحكم الشمولي! لقد حاولت في بداية الأمر أن أستدل بالعقل، وأقنع رؤسائي بضرورة تغيير تلك الإستراتيجية التي تسير في الاتجاه المتعارض طولا وعرضا مع طموحات ومصالح الشعب الجزائري والتي لا يمكنها في النهاية إلا أن تسفر عن نتائج وخيمة على البلاد والعباد، ولما لم أجد أية أذن صاغية لرأيي اتخذت موقفا مغايرا منذ 1992 وابتداء من سنة 1996 كنت من بين أوائل الضباط السامين في الجيش الوطني الشعبي الذين رفضوا مسايرة هذا الانحراف متخذا قراري الحاسم والنهائي بترك العمل في مؤسسة أصبحت أداة قمع بين الأيادي الإجرامية لأعداء الشعب الجزائري الأبي." بيد أن السؤال الأهم كان : لماذا الانسحاب من الجيش و قد كان قادرا على فعل أشياء للوطن في منصبه أجاب محمد سمرواي في ذات الكتاب: "بصفتي قد عايشت الأحداث في قلب النظام، أستطيع أن أصرّح بأن الحرب الطاحنة التي تمزق بلدي منذ 1992 هي أكثر تعقيدا مما تحاول أن تسمعنا إياه بعض التحاليل القادمة من أوروبا، والتي تقدم لنا هذه الحرب باعتبارها صراعا ناشئا عن تعارض بين عسكريين جمهوريين ومتعصبين إسلاميين...
فلهذا السبب أردت أن أساهم في إظهار الحقيقة للتاريخ دون أية مجاملة أو تحيز لهذا الطرف أو ذاك. إني في هذه الشهادة أتهم وأدين قادة الجيش الذين يسيرون ويستغلون العنف الذي تقوم به الجماعات الإسلامية منذ سنوات. قد يعتقد البعض أنني أتخذ موقف الدفاع عن "الجبهة الإسلامية للإنقاذ"، أو عن الإسلاميين، ولذلك أحرص منذ البداية هنا على التوضيح بأني لم أنتسب على الإطلاق، في أي يوم من الأيام إلى أية منظمة سياسية، كما أنه ليس في نيتي على الإطلاق أن أنفي أو أبرر الجرائم الفظيعة التي ارتكبها الإسلاميين، والتي وردت وقائعها مفصلة في العديد من الكتابات، وسواء كان مرتكبو تلك الجرائم أو لم يكونوا مستعملين ومغررا بهم، فإنهم في كل الأحوال مجرمون، ويجب أن يحاكم مرتكبوها يوما لينالوا جزاءهم. إذا كانت هناك حرب فحتما يوجد هناك طرفان متعارضان ومتصارعان وهذان الطرفان في نظري هما الجنرالات من جهة وقادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ من جهة أخرى، فلكل منهما دور ومسؤولية في إحداث المأساة الجزائرية الراهنة
وبدافع من ضميري ومحض إرادتي اتخذت قرارا لا رجعة فيه بالقطيعة النهائية مع النظام القائم، ووضعت نفسي في خدمة الجزائر وليس في خدمة عصابة من اللصوص لا يهمها إلا الدفاع عن مصالحها الخاصة، والمحافظة على امتيازاتها التي لا تعرف الحدود، على حساب كل الأعراف والقيم، العصابة التي لا تتردد من أجل الإبقاء على تلك الأوضاع في إثارة الجزائريين وتحريض بعضهم ضد البعض الآخر، واغتيال الأبرياء للإمساك بقبضة من حديد على الوطن، ورهن مصيره ووضع الأيدي على قدراته السياسية والاقتصادية..." ثم يذهب الكاتب لعرض ما وقع من البداية، منذ ظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ : "بعد الانتصار الذي تحقق للإيديولوجية الإسلامية ابتداء من سنة 1989 أخذ أصحابها يتوقون إلى تجسيد مبادئ وقيم الإسلام محاولين في غالب الأحيان فرض ذلك بالقوة وبالتي هي أخشن، وليس بالإقناع وبالتي هي أحسن. وبالرغم من أن قاعدة هذا الحزب كانت غير متجانسة إلا أن بعض قادة الجبهة الإسلامية للإنقاذ شجعوا هذا الانحراف التسلطي، وهو الأمر الذي أدى إلى ظهور تيار متطرف مناهض لأي تقدم أو مسايرة للعصر.
وقد طور هذا التيار خطابا معاديا للديمقراطية يتجلى بوضوح في بعض الشعارات المرفوعة آنذاك " الديمقراطية كفر" أو " القانون الوحيد هو القرآن" أو "لا ميثاق لا دستور قال الله قال الرسول" وكان أصحاب هذا الاتجاه يدعون إلى تطبيق الإسلام بالقوة والعنف، كإجبار النساء على ارتداء الحجاب أو إقامة الحدود الشرعية على العصاة والمخالفين... وكذلك أخذ الضريبة "الثورية" التي تحولت فيما بعد، خلال سنوات الدم، إلى "ضريبة الجهاد"، "إن هذه الفرقة المتطرفة من الإسلاميين هي التي دفعها جهاز المخابرات التابع للجيش، بالوسائل التي سنتحدث عنها فيما بعد، إلى الثورة والمجابهة، مجرجرة معها شبيبة بكاملها إلى حمل السلاح والالتحاق بالجبال واتخاذ لغة العنف وسيلة وحيدة للتخاطب" يضيف محمد سمراوي كاشفا الجانب الآخر من الصراع الداخلي وقتها : "ابتداء من هذا التاريخ المشئوم، اتخذ جنرالات الظل من توقيف المسار الانتخابي وإلغاء نتائج دورته الأولى... ذريعة للزج بآلاف الجزائريين في أتون حرب أهلية فظيعة: جنون غير مسبوق يصيب الشباب الذين كانوا محرضين بعضهم ضد البعض الآخر من قبل نظام حكم مكيافيللي، في حين لم يكن هؤلاء الشبان يحلمون جميعهم في حقيقة الأمر إلا بالحرية والعدالة والكرامة
إن الإسلام الثوري أو الحركي لم يبرز إلى الوجود هكذا من العدم. فالبؤس الاجتماعي وتهميش النخب التواقة إلى التقدم ومواكبة العصر وكذلك رفض أي مشروع مجتمع متماسك يسمح بتكوين تركيبة متناسقة تجمع بين القديم والجديد والأصالة والمعاصرة، يضاف إلى ذلك غياب الحرية والديمقراطية، وتفشي ظاهرة الرشوة والفساد في كل مكان وفي مختلف المجالات... كل هذه العوامل والظروف مجتمعة هي التي أدت خلال الثمانينيات إلى ظهور الحركة الإسلامية في الجزائر. ومن جهة أخرى وفي سياق جيوسياسي وتحول واسع وعميق للعالم "سقوط جدار برلين، أفول نجم الشيوعية، نهاية الحرب الباردة، وبالتالي نهاية عالم القطبين، وظهور العولمة..." كان بروز الحركة الإسلامية نتيجة منطقية كذلك لتدني مستوى "أصحاب القرار" الرئيسيين الذين لم يرفضوا تسليم المشعل للأجيال اللاحقة فحسب، بل أن فسوق" شبه النخبة" هذه التي تعيش على الريع قد عكس للمجتمع صورة نظام متغطرس تنخره الرشوة، ويشله الإهمال، ويقتله التبذير..."
الجزائر- ياسمين صلاح
No comments:
Post a Comment